افتتح المتحف المصري الكبير، وهو أعجوبة معمارية تقع على هضبة الجيزة، أبوابه رسميًا بعد حفل رائع بقيادة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. تقع هذه المؤسسة الضخمة على بعد كيلومترين فقط من الهرم الأكبر بالجيزة، المعروف أيضًا باسم هرم الملك خوفو، ومن المتوقع أن تصبح واحدة من أبرز المعالم الثقافية في العصر الحديث.
وكان حفل الافتتاح بمثابة مشهد عالمي، حضره قائمة متميزة من الشخصيات الدولية البارزة. واستقطب الحدث حوالي 18 رئيس دولة، و8 رؤساء وزراء، و40 وفداً وزارياً وبرلمانياً رفيع المستوى، إلى جانب 6 وفود من المنظمات الإقليمية والدولية. وشمل ذلك العديد من رؤساء الدول الأفريقية مثل رؤساء غانا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإريتريا والصومال وجيبوتي وغينيا الاستوائية وليبيا. وانضم إليهم رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، ورئيس وزراء أوغندا، والعديد من قادة العالم الآخرين. وقد أكد هذا التجمع الذي ضم 79 وفدًا رسميًا من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 39 وفدًا بقيادة الملوك والأمراء ورؤساء الدول والحكومات، على الاهتمام الدولي العميق بالحضارة المصرية والدور الثقافي والإنساني الدائم للقاهرة.
وتسلم الملوك والرؤساء والأمراء المشاركون، خلال الحفل، نماذج مصغرة للمتحف، محفورا على كل منها اسم الدولة. ودعت هذه اللفتة الرمزية القادة إلى “وضع قطع وطنهم بأيديهم، رمزاً لمشاركة شعبهم في هذا الصرح الإنساني”، كما أُعلن خلال الفعالية. وقام الرئيس السيسي بوضع القطعة الأخيرة التي تمثل مصر، إيذانا بالافتتاح الرسمي للمتحف.
ووجه الرئيس السيسي في كلمته ترحيبا حارا بالضيوف على “أرض مصر، أقدم دولة عرفها التاريخ.. هنا كتبت الحضارة أولى حروفها، وشهد العالم ولادة الفن والفكر والكتابة والعقيدة”. وتابع: «اليوم نحتفل بافتتاح المتحف المصري الكبير ونكتب فصلا جديدا في تاريخ الحاضر والمستقبل». وأكد الرئيس أن مصر القديمة ألهمت الناس في جميع أنحاء العالم، حيث “أضواء الحكمة تنبثق من ضفاف النيل لتنير طريق الحضارة والتقدم الإنساني”. وأكد أن “هياكل الحضارة تبنى في زمن السلم وتزدهر بروح التعاون بين الشعوب”. وأكد السيسي أن هذا الصرح الكبير ليس مجرد مستودع للآثار، بل هو “شهادة حية على عبقرية الشعب المصري، وصورة ثلاثية الأبعاد لمسيرة شعب سكن أرض النيل منذ فجر التاريخ، مجتهد، صانع المجد، ورسل السلام”.
كما أشاد الرئيس السيسي بالتعاون الدولي المكثف الذي ساهم في إنجاز هذا المشروع الضخم، خاصة الدعم الكبير الذي قدمته اليابان خلال مراحل إنشاء المتحف. ودعا الحضور إلى الانغماس في هذا الحدث العالمي، قائلاً: “أدعوكم لجعل هذا المتحف منارة للحياة، ومركزًا يسلط الضوء على رسالة مصر الدائمة المتمثلة في نشر السلام والتواصل بين الشعوب”.
وتضمن حفل الافتتاح عرضًا تقديميًا مذهلاً يعرض عظمة وتراث الحضارة المصرية، مع المتحف والمناطق المحيطة به كأبطال مركزيين. ويعد الملك توت عنخ آمون نقطة محورية داخل قاعات العرض، حيث تم نقل كنوزه بدقة من المتحف المصري بالتحرير إلى المتحف المصري الكبير. وبعد جولات كبار الشخصيات، من المقرر أن يفتح المتحف أبوابه لعامة الناس اعتبارًا من 4 نوفمبر 2025.

وفي الليالي التي سبقت الكشف الكبير، تمت إضاءة الواجهة الضخمة للمتحف، والتي كانت تقع بشكل مثير على منحدر يطل على أهرامات الجيزة، بشكل مذهل، مما خلق مشهدًا يحبس الأنفاس. واستغرق بناء المتحف، الذي تبلغ مساحته ما يقرب من نصف مليون متر مربع، أكثر من عقدين من الزمن وبلغت تكلفته أكثر من مليار دولار. وقد حظي الحفل المتقن بتغطية إعلامية واسعة النطاق، حيث شارك فيه أكثر من 450 مراسلاً دولياً يمثلون حوالي 180 وسيلة إعلامية. كما قدمت هيئة المتحف المصري الكبير بثًا مباشرًا مجانيًا عبر TikTok، مما يضمن الوصول العالمي إلى هذا الحدث التاريخي.
وقدمت السوبرانو المصرية فاطمة سعيد عرضًا فنيًا آسرًا خلال حفل الافتتاح، أبهر الرئيس السيسي وزعماء العالم المجتمعين. وصوّر عرضها الاستثنائي قصة المسلة التي أقامها الملك رمسيس الثاني، حيث مزجت الموسيقى المتطورة مع التعبير الفني الذي جسد البراعة والروح الخالدة للحضارة المصرية القديمة. وحظي أداء سعيد الراقي وصوته الشجي بإشادة واسعة النطاق، وأضفى على الاحتفال أجواء مذهلة تليق بحجم الحدث ومكانة مصر الحضارية، في لحظة تلاقت فيها الفن الرفيع مع روح التاريخ على أرض مقدسة.

يؤكد خبراء الآثار المصريون أن المتحف المصري الكبير تم إنشاؤه استجابة للحاجة الملحة لمجمع ثقافي واسع ومتطور قادر على استيعاب العدد المتزايد من القطع الأثرية المصرية القديمة. ظلت المساحة المحدودة للمتحف المصري بميدان التحرير بالقاهرة، لفترة طويلة، غير كافية لاستيعاب الحجم الهائل من الكنوز الأثرية. تم اختيار الموقع الاستراتيجي للمتحف المصري الكبير، المطل على أهرامات الجيزة القديمة وعلى بعد كيلومترين فقط، بدقة “لتجسيد العلاقة بين الماضي والحاضر بشكل رمزي”. على مدى قرون، أسرت الأهرامات والأسرار المحيطة ببنائها عددًا لا يحصى من العقول، مما أدى غالبًا إلى نظريات تأملية وغير علمية في بعض الأحيان. كانت الأهرامات المصرية، وخاصة هرم خوفو الأكبر، محاطة بثروة من القصص والأساطير المثيرة للاهتمام فيما يتعلق بطرق بنائها والغرض الوظيفي منها، مما دفع البعض إلى التشكيك في هوية بناةها وروايات أخرى تفتقر إلى أساس تاريخي أو علمي.

أعجوبة معمارية وموقع متميز
التصميم المعماري الفريد للمتحف المصري الكبير، والذي صممته الشركة الأيرلندية هينيغان بينغ، يمزج بسلاسة بين الهندسة الحديثة والرمزية الفرعونية القديمة. ويتوافق هيكل المتحف مع أشعة الشمس، حيث يمتد من قمم الأهرامات ليلتقي في قلبه، مما يخلق مشهدًا بصريًا يحبس الأنفاس. بدأ البناء في عام 2005، وانتهى في عام 2021، تليها الاستعدادات الدقيقة للتركيبات والصيانة وتدريب الموظفين.
يغطي المتحف المصري الكبير مساحة 500000 متر مربع، مع 120000 متر مربع مخصصة للحدائق المورقة، ويقدم رحلة غامرة عبر آلاف السنين من التاريخ المصري. تمتد قاعات العرض الـ 12 من عصور ما قبل الأسرات إلى نهاية العصر الروماني في مصر، وتعرض أكثر من 100 ألف قطعة أثرية.

مجموعات غير مسبوقة
ملاذ الفرعون الذهبي: الكشف عن كنوز توت عنخ آمون
ومن أبرز المعالم المنتظرة في المتحف المجموعة الكاملة لكنوز الملك توت عنخ آمون. ولأول مرة منذ اكتشاف مقبرته في عام 1922، سيتم عرض أكثر من 5000 قطعة أثرية تعود إلى “الفرعون الذهبي” بالكامل، مما أكسب المتحف المصري الكبير لقب “منزل توت”.
في السابق، لم يتم عرض سوى عناصر مختارة، مثل القناع الذهبي الشهير، في المتحف المصري بالتحرير، مع بقاء العديد من القطع الأخرى التي لا تقدر بثمن في المخزن. والآن، بعد ترميمها وإعدادها بدقة، سيتم أخيرًا الكشف عن هذه الكنوز للجمهور – بما في ذلك ختم توت عنخ آمون، والدرع الجلدي الذي لم يُرى من قبل، وحتى الأجنة المحنطة التي تم اكتشافها في غرفة دفنه. سيتم أيضًا جمع عربات توت عنخ آمون الحربية الست، التي كانت منتشرة في العديد من المتاحف، في عرض واحد. الشيء الوحيد الذي لم يقم بالرحلة هو مومياء توت عنخ آمون، والتي ستبقى دون إزعاج في مثواها الأصلي في وادي الملوك.
ومن بين المعروضات المذهلة الأضرحة الخشبية الأربعة المذهبة للملك توت عنخ آمون، والتي تم نقل أكبرها بشق الأنفس من المتحف المصري في التحرير. هذه المزارات، التي تم اكتشافها في مقبرته بالأقصر في نوفمبر 1922، موجودة الآن في واجهات عرض حديثة يتم التحكم فيها بيئيًا وتبلغ مساحتها حوالي 7200 متر مربع، مكتملة برسومات متقدمة وشاشات تفاعلية لتعزيز تجربة الزائر.



ما وراء توت: عروض مميزة أخرى
المسلة المعلقة: تحية الزوار في الساحة الخارجية هي “المسلة المعلقة” المهيبة للملك رمسيس الثاني، والتي تم نقلها من صان الحجر. ويتيح عرضه المبتكر على قاعدة مرتفعة، لأول مرة منذ 3500 عام، رؤية خرطوش رمسيس الثاني، المخبأ في قاعدته منذ آلاف السنين. رمسيس الثاني، أحد أشهر فراعنة مصر القديمة، حكم خلال عصر الدولة الحديثة من عام 1279 إلى 1213 قبل الميلاد تقريبًا.
تمثال رمسيس الثاني: يعد تمثال رمسيس الثاني الضخم المصنوع من الجرانيت الوردي، والذي يبلغ ارتفاعه 11.30 مترًا ووزنه 83.4 طنًا، أول قطعة أثرية ضخمة ترحب بالزوار في البهو الكبير بالمتحف. تم اكتشاف هذا التمثال الرائع عام 1820، وتم نقله إلى ميدان رمسيس بالقاهرة عام 1955 قبل نقله النهائي إلى المتحف المصري الكبير عام 2006.
عمود مرنبتاح: ويوجد أيضًا في القاعة الكبرى عمود من الجرانيت الوردي للملك مرنبتاح ابن رمسيس الثاني. تم اكتشاف هذا العمود عام 1970 في مدينة أون (عين شمس)، ويبلغ طوله 5.60 مترًا، ويزن 13 طنًا، وهو مزين بنقوش هيروغليفية تحكي انتصار مرنبتاح الحاسم في معركة مشهورة خلال عامه الخامس في الحكم.
الدرج الكبير: قبل الصعود إلى قاعات العرض الرئيسية، يمكن للزوار استكشاف 59 قطعة أثرية ضخمة تصطف على جانبي “الدرج الكبير”. تعرض طريقة العرض الفريدة هذه بعضًا من أروع وأثقل المنحوتات في مصر القديمة، والتي تمتد من عصر الدولة القديمة إلى العصر اليوناني الروماني، وبلغت ذروتها في منظر بانورامي خلاب للأهرامات من شرفة زجاجية.
مراكب خوفو الشمسية
وفي مبنى منفصل ومخصص بجوار المتحف الرئيسي، يمكن للجمهور استكشاف “مراكب خوفو” أو “مراكب الطاقة الشمسية” الرائعة. وسيتم عرض القارب الأول، مما يتيح للزوار التجول فيه ومشاهدته من جميع الزوايا. وسيتم تخصيص قسم ثانٍ من المتحف للقارب الثاني، مما يوفر فرصة فريدة لمشاهدة عملية الترميم والتجميع المستمرة، والتي من المتوقع أن تستغرق من خمس إلى سبع سنوات. تمثل هذه القوارب المصنوعة من خشب الأرز، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من 4600 عام، بعضًا من أقدم المصنوعات العضوية التي عرفتها البشرية.